لم يكن مستوعباً ما يحدث حوله، هو بين مجموعة من البشر داخل أطر نحاسية فى حراسة أمنية داخل الحرم المكى ينتظرون دورهم للمشاركة فيما يطلق عليه «غسيل الكعبة»، فى اليوم الأول من شعبان جاءته الفرصة فاعتبرها هدية من الله حتى يغفر له ذنوبه المتراكمة.. يطمئن نفسه بأن الله يحبه ويحس به ويعرف جيداً أنه لا يحب المعصية، ولكنه الضعف البشرى وإغراءات الحياة ومللها وضغوطها وفسادها أيضاً، وأغلب معاصيه تقصير فى حق الله، والله يتجاوز عما له ولكن العفو عن حقوق الناس فللناس.
يلتفت حوله فيجد بجواره شيخاً جليلاً يزحف نحوه، وعيناه شاخصتان نحو الكعبة، دون أن يسأل يجيبه الشيخ: «إنها مسؤولية كبيرة قد تكون محنة لا منحة.. اصطفاك، مع عدد قليل، لتدخل بيته الحرام، منحك الفرصة، فإما أن تكون لك أو عليك».
يفتح الباب ويهرول مع المهرولين فى اتجاه الكعبة، تحول بينهم وبين آلاف المعتمرين أياد متماسكة لرجال الأمن، تطالعهم العيون حاسدة أو مهنئة أو باكية. ها هو يقترب من البيت الحرام، يصعد على سلم خشبى، يدلف من الباب، تتصاعد أنفاسه قبل أن تطأ قدماه أرض الكعبة من الداخل، يشعر بأن الموت سيعاجله، سيحرمه من تلك الفرصة الذهبية، يدفعه الداخلون.. عيناه تتجمدان على سقف الكعبة من الداخل، يدلف يميناً ثم يخر ساجداً، تسيل الدموع من عينيه..
يتذكر النبى صلى الله عليه وسلم ـ وسيدنا إبراهيم وأبرهة الأشرم، تطل على ذاكرته كل خطاياه، يسأل الله كرمه وعفوه ومغفرته.. يطارده وجه أمه الحانى، يدعو لها بالفردوس الأعلى، ينتهى من صلاته الأولى فيشعر بيد والده تسحبه بقوة، حيث صلى رسول الله ركعتين، يلبى الله أكبر، يصلى فيزيد البكاء، يدعو لمن أخطأ فى حقهم أولاً ثم لمن أحبهم، ثم لمن أخطأوا فى حقه.. هؤلاء يدعو لهم بالهداية، هكذا علمه الحبيب على الجفرى «أليس القادر على الانتقام قادراً على الهداية».
يردد صوته بداخله وهو يسمع دموع ونهنهات من حوله، ادع الله بكل ما تشاء فيردد دعاء واحداً مرات عديدة «اللهم أعنى على نفسى»، يتذكر فجأة تلك القصة التى حكاها له أحد العلماء عن حاكم عاقل، اكتشف أن نهاية كل حاكم قبله كما هى نهاية كل الرعية فى مدينة نائية لا يعرف عنها أحد إلا من يذهب إليها، فقرر أن يستغل وجوده وسلطته فى إرسال كل شىء جميل ورائع إلى تلك المدينة، لأن حياته الحقيقية والمستمرة ستكون فيها، استغل حياته المؤقتة فى الاستثمار لحياته الدائمة.
يتحول البكاء إلى نحيب شبه جماعى، تمتلئ الصدور بروائح ذكية وكأنها رائحة الجنة، فتغتسل الكعبة بدموع التائبين.