1-3
وبعد التقصي عن حقيقة العفريت ، عرفت ان هذا العفريت هو شقيقة عصام بنقابها وجديتها وسرعتها على الدرج ، ولعلها هي نفسها كانت خائفة وهي تعدو إلى شقتها من ذاك الصاعد في حلكة الظلام ، ولم يكن درج البيت مضاء بمصباح واحد ، وكان البيت نفسه قديما مظلما لا ( منور) فيه يطل على السلم ، ولا نافذة ، ولا منفذ من نور .. حتى كان يشق علينا نحن الشباب صعوده ليلا إلا بشق الأنفس ..
كانت تلك هي الدقة الثانية التي حفرت نقطة أخرى من نقاط حرف ( الحاء ) على شغاف القلب ..
ثم مضت بنا الأيام .. والطيف الغائم يتشكل على نحو مبهم في وجداني .. حتى جاء عام دراسي ، كثرت فيه مشاغباتي ..
فلتغفر لي يا صاحبي إنما هي فورة الشباب وحماسة المبتدئين ، وإقدام الطامحين ..
شاغبت وشاغب أصحابي ، في أمور وإن كانت طلابية ، وإن كنت أعتقد بعد هذه السنوات الطوال أنها لم تكن خاطئة على وجه الإطلاق ، وإنما كانت جرأة تحتاج إلى ترشيد ..
دعني أتذكر المناسبة ، أو قل المناسبات التي كانت تفتح شهيتنا للمشاغبة .. كنا أيامها في مطلع التسعينات ، في العام الأول من ذاك العقد الممتلئ بالأحداث ، ولقد كان الحدث الكبير الذي يحيط بنا ، هو إقدام صدام حسين على احتلال دولة الكويت الشقيقة ..
لا يخفى عليك أننا يومها لم نكن مع صدام ولا مع غزو العراق للكويت ، بل كانت قلوبنا مع أهل الكويت وشعبه وأبنائه .. غير أننا كنا بنفس القدر الذي نرفض فيه الاحتلال .. كنا نرفض أيضا السماح لقوات التحالف بقيادة الأمريكان النزول بالخليج العربي وتولي مهمة إخراج العراق من الكويت ، كنا نراها خطة مدبرة لاستنزاف أموال الخليج وإمكاناته المادية الهائلة ، وكذا استنزاف قوة العراق العسكرية ..
كنا نراهما ( المال والقوة العسكرية ) عصب حضارة إسلامية أو عربية على وشك الشروق ..
كنا نمثل إذن جبهة طلابية وشبابية رافضة ، ولم يكن هذا هو السبب الوحيد لمشاغباتنا ، بل كان السبب المباشر هو شؤون طلابية بحتة ، لا أحب أن أشغل بالك بها عن موضوعنا الأساسي ..
لقد شاغبنا ، واستحققنا من الدولة أن تهذبنا ، أو أن تعيد تهذيبنا ، وأظنه لا يخفى عليك معنى ذلك ، فالسجن تهذيب وإصلاح !!
وكنا وقتها شبابا جامعيا على مشارف التخرج ومعانقة الحياة ، وكان لابد لنا قبل ذلك من تهذيب وإصلاح ..
كان سجننا في فصل الشتاء ، وليالي الشتاء طويلة باردة ظلماء ، وليالي الشتاء في السجن أكثر طولا وأشد ظلمة ، وأعمق كآبة .. غير أنه قد يدهشك إن أنا أخبرتك أن ( أبي زعبل ) كان من أهم الأماكن التي زرتها في حياتي ، وأن لياليه الطويلة الكالحة ، كانت بالنسبة لي من أسعد ليالي العمر ، أو أنها كانت المدخل لأسعد أيام حياتي كلها ..
تحت وطأة الظلم والظلمة يمكن أن تتغير بعض النفوس ، لاسيما تلك التي لم تؤهل نفسها لتحمل هذا الموقف الغامض ، فلا نحن نعرف إلى متى ؟
ولا هل سيسمح لنا بحضور امتحاناتنا الدراسية أم سيضيع علينا العام ، ونعود من جديد فيلحق بنا من يأتي من خلفنا ؟ ..
في مثل هذه الظروف القاتمة تغيرت نفوس أصدقائي ورفاق الرحلة ، رحلة الشغب ورحلة التهذيب .. غير صديق واحد آنس إلي ، فآنست بالبديهة إليه ..
كنا نسمر معا ونحن راقدين متدثرين بذلك الرداء الخشن الشائك ، وكنت ممن لا يطيقون ملمس الخشونة على جسدي ، فكان النوم يجافيني ، وكان سمر صديقي يؤنسني حتى يغلبه النوم ، ومن ثم يغلبني ..
ولم أدر لم كان يكثر صديقي من الحديث عن شقيقاته ، خصوصا شقيقتيه الكبيرتين وهما اللتان تليانه مباشرة في ترتيب الميلاد ..
أكان ذلك لغرض في نفس يعقوب ؟
أم أن يعقوبنا كان محبا لشقيقتيه ، وكان دائم الحنين إليهن ، وكان ينفس عن حنينه هذا معي ؟؟
حكي لي كثيرا عن كبراهما تلك التي كانت تدرس في جامعة الإسكندرية وتسكن بمدينتها الجامعية ، وكيف التزمت بطريق الهداية ، وكيف أنها شديدة الجدية والالتزام ، شديدة التعلق بالأخلاق القويمة مستقيمة عليها ..
وعاد بنا الحديث من حيث لا ندري ولا نحتسب إلى ( العفريت ) ..