1-4-
وعاد بنا الحديث من حيث لا ندري ولا نحتسب إلى ( العفريت ) .. إلى شقيقة عصام ، فهي التي دعتها إلى الالتزام والاستقامة ، وهي التي أمدتها بالكتب والأشرطة ، وهي التي علمتها كثيرا من الأخلاق والمواقف ، وهي التي تمثل لها النموذج القويم ، وهي التي تزورها في بلدتها التي تبعد عن مدينتنا مسيرة عشرين دقيقة بالسيارة الأجرة ، غير أنها تحتاج ضعف هذا الزمن من الوقت مشيا على الأقدام إلى موقف الأجرة ذاته ..
كان صديقي يحدثني ويكثر في الحديث في ظلمة الليل حيث لا نلمح طيف امرأة في سجن يعزلنا عن الدنيا ، ويعزلنا بالتأكيد عن الجنس الآخر ، فطيف المرأة له مفعول أمضى من مفعول السحر ، وذكر المرأة ينكأ جراحا ، أو بالأحرى يجرح جراحا ، فلم نجرح من قبل لتندمل جراحنا ثم تنكأ ، وإنما كانت هي جراح جديدة تماما ..
كان صديقي يحدثني كثيرا عن ( رتيبة ) شقيقته ، وإنما كان الذي يتسرب إلى نفسي كلها فيملأ كياني كله طيفها .. طيف ( منال ) شقيقة عصام ، وليس طيف رتيبة .. فكل حديث عن أخلاق ( رتيبة ) يعرج بي بالتأكيد إلى خلق صديقتها وداعيتها ( منال ) ..
وما كان يدري أن حديثه عن شقيقة عصام في معرض حديثه عن رتيبة ، قد بنى في القلب أسوارا ، وأضيئت حوله أنوار ، وحرك في الروح مشاعر ، ما كان لها أن تتحرك في تلك الظروف بالغة الغرابة ..
لم أكن أعرف سنها ولو على وجه التقريب ، وأصارحك يا صديقي مصارحة ربما تشمئز بسببها مني .. لقد كانت شقيقة عصام تسبقني في الدراسة .. لذا توقعت أن تكون أكبر مني سنا ، وهذا أمر مرفوض في قانون الحب الذي كنت أضعه لنفسي وقتئذ ..
ولا يخفى عليك طبعا أنني لم أرها ، ناهيك عن أني طالب ، لست على أبواب التخرج من الجامعة بقدر ما أنا على أبواب إعادة الإصلاح والتهذيب ، فأما التخرج من الجامعة فعلمه عند ربي ، وأما الحصول على عمل ، فهذا مما لا أملك أن أماري فيه مراء باطنا ولا ظاهرا ، ما كنت في وسط هذه الأجواء أقنع نفسي أنني أحببت .. لكن الحقيقة أن روحي كانت قد تعلقت بتلك الروح ، وبدأ الطيف الذي يتشكل في وجداني منذ زمن ينمو ، وبدأت ملامحه تكتمل ..
1-5-
وخرجنا من مرحلة التهذيب والإصلاح ، وقد حدث لنا ، أو - لي على الأقل - كثير من التهذيب والإصلاح ، وعزمت بيني وبين نفسي ألا أعود إلى السجن أبدا ، صحيح أنهم اتهموني بالمشاغبة لاحقا ، كانت المناسبة وقتها مؤتمر مدريد للسلام ، أو لعله كان اتفاق غزة أريحا ، الذي كان يسميه الطلاب وقتها سخرية : باتفاق ( عزة مديحة ) ..
ولم أكن شاغبت ، فهربت .. وكان هروبا صعبا محفوفا بالمخاطر ، ولكنني كنت قد أصررت على عدم العودة ، فما نلته من تهذيب وإصلاح يكفيني ، وهي على العموم فريضة على المستطيع مرة في العمر ، طالما أنه سيتزود منها بزاد يبقيه في نفسه طيلة حياته فلا يتجاسر على المشاغبة مرة أخرى .. فما هي قيمة التنفل بعد أداء الفريضة الواجبة !!!
خرجنا من جامعة أبي زعبل للإصلاح والتهذيب ، ثم تخرجت بعد ذلك في الجامعة .. وبدأت أشق طريقي في الحياة ، وكان قد سكنني الحب ، ومازال الطيف الذي تشكل يحتويني ويملأني ، غير أنني ما كنت أصارح نفسي بذلك للصعوبات التي ظننتها أمامي في الطريق ..
كنت ممن يحرصون على الجمع بين الحب والزواج ، أو لم أكن أرى طريقا للحب غير الزواج ، وعشقت الحديث الشريف :
لم ير للمتحابين مثل الزواج ..
وأحببت بيتا للشعر يقول شطره الأخير :
فعجبت كيف يموت من لا يعشق!!!
فالعشق داء وهو الدواء .. وحتى لا يكون العشق داء عضالا مميتا ، فلابد له الدواء من ذاته ، وهو الجمع بين العشيقين في الحلال ، أي الزواج ..
وهكذا وجدت نفسي أبحث عن سبل الزواج ، وأتخلى عن أحلامي العريضة في غزو الصحراء ، و... و .... و ....
من أجل أن أتم مشروع الزواج ..
لم تكن ثمة إمكانات .. لا لم تكن .. بل كان هناك فضول إمكانات .. نعم بالضبط مثل فضلات تبقت من طعام جيد على مائدة نظيفة ، ما تبقى من فضول الطعام كان نظيفا صالحا ، لكنه لا يعدو كونه فضلا تبقى ..
وطمعت في هذا الفضل ( فضل زاد ) .. شقة عي عبارة عن بقية مما ترك الأولون من أجدادي
وفضل مال .. قد يصلح أن يكون زكاة عن مال جيد ..
وكانت هذه هي عدتي للزواج ..
ورغم ذلك مضيت في الطريق إلى الزواج ..
كان هناك تحد قائم ، بل ثمة تحديات ..
مَن تلك الفتاة التي تقبل بمثل هذا الفضل للزاد ؟ ومَن هي تلك الأسرة التي ترضى بمثل هذا الوضع ؟
شريطة أن تكون أسرة محترمة ذات سمعة طيبة وصيت حسن ، ومستو اجتماعي مكافئ لمستوى أسرتنا الاجتماعي ، وهو مستوى بالمناسبة جيد !!
وأن تكون الفتاة ذاتها طيبة من تلك الفتيات التي يحلم بالارتباط بها عشرات الشباب
-6-
نسيت أن أحدثك عن عقدة حياتي ، لعلي تناسيت الحديث عنها حتى لا أثقل عليك ، أو حتى أظل متجملا أمامك .. غير أنه من الأمانة إذا أردت حقيقة أن تعرف من هي ( منال ) ، أن أحدثك عن تلك العقدة النفسية التي سيطرت علي تماما ، والتي كانت تسيطر كذلك على أسرتي بل على عائلتي جميعا ، لتدرك بعد ذلك مدى قسوة الامتحان وصعوبته التي ستوضع فيه أي فتاة تقبل الارتباط بي ..
في الماضي القريب ، كان لي قريب من هؤلاء الشباب الرائع الذي يصلح نموذجا وقدوة لأمثالي من صغار السن ، وكان شابا طموحا متدينا ناجحا في عمله ، ميسور الحال ، وكان قد ارتبط بفتاة هي الأخرى قريبة لنا ، رأت فيه نموذج الشاب الناجح الذي يسعدها بشبابه بقدر ما تسعدها إمكاناته المادية الميسورة ، وكان لها هي الأخرى أحلام .. كانت ممن يحببن زينة الحياة الدنيا وملذاتها ، وكانت بالاختصار المفيد ، تريد أن تعيش حياتها وفق هواها وتصوراتها وأحلامها .. ولم يكن لقريبي ذاك أدنى اعتراض غير ما تفرضه الأصول والأعراف في حدود ضيقة بسيطة .. حتى حدث التحول الكبير في حياة قريبي .. لم يكن تحولا سيئا بالجملة بقدر ما كان تحولا مبهما .. كان الزمن هو النصف الأخير من عقد السبعينات ، وكان شباب الجماعات الإسلامية يملأ جامعات مصر ، وبدأ من تخرج منهم في الجامعات الاحتكاك بالمجتمع والتأثير فيه ، وكان منهم من احتك بقريبي وأثر فيه ، وبدأ قريبي يدرك أن في الدين ضوابط وحدودا ، تتفوق في كثير من الأحيان على تقاليد المجتمع وعاداته وأعرافه ..
بدأ يعرف شيئا عن فرض الحجاب على المرأة ، وبدأ يطالب خطيبته .. التي هي قريبته أيضا .. أن تستر جمالها وتتحجب ، وبدأت تتشكل لديه رؤية مخالفة للحياة في ضوء ضوابط وقيم دينية ، لم تكن مكتملة في نفسه من قبل .. وأنا هنا لست بصدد مناقشة هل كانت هذه الأفكار صائبة أم كانت تجنح نحو الغلو .. لكن الذي حدث أن ثمة تغييرا جذريا حدث في شخصية قريبي ذاك ، وأنه بالمقابل لم يحدث أي تغيير في شخصية خطيبته ، إلا النفور من ذلك الشخص الجديد الذي لم تقترن به ولم توافق عليه يوم وافقت على الخطبة من شخص بدا لها اليوم أنه مختلف تمام الاختلاف ..
صحيح أن الاسم هو الاسم ، والشكل هو الشكل ، والوضع المادي والاجتماعي هو نفسه ، غير أن المضمون كان قد تغير بالكامل ، تغير في الاتجاه المضاد ..
حدثت أزمة ، وتفاقمت الأزمة ، لأن الخلاف هذه المرة لم يكن خلافا معتادا بين أهل خطيبين على أثاث أو مهر أو نفقة ، وإنما كان خلافا بين مذهبين في الحياة ..
كان الأمر جديدا على الواقع الاجتماعي ، وزاده تعقيدا علاقة القرابة والنسب التي تربط الجميع ، وأصبح في فض هذه الخطبة ، نوع من زعزعة الاستقرار في أسر أخرى داخل العائلة الكبيرة ..
مرت هذه الفترة بمرها وآلامها .. وانفصمت تلك العلاقة .. واستقر حال العائلة على الوضع الجديد بعد كثير من الاهتزازات والاضطرابات ، ثم راهن الجميع على تلك التي سيرتبط بها قريبي وفقا لأفكاره وميوله الجديدة ..
كان الجميع ضده ، لا لأنه أخطأ ، ولكن كانوا ضده بقدر غرابة ما يحمل من أفكار لم تتسلل من قبل إلى محيطنا الاجتماعي ..
وكنت أنا معه .. كنت وحدي في تلك المعركة ، وكنت صغيرا لا يأبه أحد لرأيي ، لكن كانت هناك داخلي شخصية تتبلور وتنمو ..
وارتبط قريبي بفتاة أخرى من خارج محيطنا العائلي والاجتماعي ، وإذا شئت قلت مرتاحا ، وخارج نطاقنا القيمي أيضا ..
وكان هذا هو أول احتكاك للعائلة بفتيات المساجد ..
والحقيقة يا صديقي أن عائلتنا حملت ظلما بينا لفتيات المساجد من جراء هذه العلاقة .. ربما لم تكن تلك الفتاة من المواظبات على المساجد ، وربما كانت حديثة عهد بالتدين ، ولعلها كانت من أسرة ذات اتجاهات معينة انطبعت بداخلها فلم تتمكن من التخلص من رواسب التربية هذه في فترة انضمامها للمسجد ..
أستطيع أن أقول : أنها كانت فتاة محجبة وكفى ..
لكنهم قاسوها بمقياس أنها امرأة داعية ، يحصون عليها حركاتها وسكناتها ، ويلتمسون لها الأخطاء ، في زمن ركز فيه الإعلام على سلبيات كل ما هو ديني ، وكل من هو متدين ..
وهناك بون شاسع بين فتاة في أول الطريق تتلمس معالمه ، وبين داعية تدخل في عائلة تناصبها العداء مسبقا ، تقيس حركاتها وسكناتها .. وتعد عليها أنفاسها .. فكيف لفتاة بمثل هذه الظروف أن تحول هؤلاء المتربصين بها إلى أحبة متفتحي القلوب لها !!
إنها في الحقيقة كانت مأساة .. صنعتها عائلتنا .. أو صنعتها ظروف عائلتنا ..
وتشربتها ، تشربت هذه المأساة وأنا في بداية سن المراهقة ..
تشربتها حتى سيطرت على نفسيتي تماما .. وتشربت معها أن نموذج المسلم الملتزم قد أسيء تقديمه إلى محيطنا الاجتماعي ، أسيء تقديمه بحسن نية من جانب ، وتربص ومراهنة على سقوطه من جانب آخر ..
ولا أخفي عليك أنني منذ هذا التاريخ وأنا أحمل على عاتقي إعادة تقديم نموذج المسلم الملتزم لمحيطنا الاجتماعي من جديد .. على أن يكون نموذجا ناجحا هذه المرة .. وكانت شريكة حياتي المنتظرة هي فرس الرهان لتقديم هذا النموذج ..
هل تدرك الآن يا صاحبي عمق هذه العقدة النفسية واستحكامها وسيطرتها على نفسي ؟
وهل تدرك الآن كم المعاناة التي ستسببها هذه العقدة النفسية ، وهذه التجربة القاسية لشريكة حياتي المنتظرة ؟
هل تدرك الآن أن نجاحها لن يكون سهلا ، وأن مواقفها ستؤول ، وأن كثيرا من المقارنات الظالمة والخاطئة سوف تعقد لتصرفاتها وآرائها وسكناتها وحركاتها ؟
وقبلت التحدي .. سلاحي فيه الطيف الذي يتشكل بداخلي ، فما كان هذا الطيف لينظر إلى زهرة الحياة الدنيا ، وما كان ليرضى بمباهجها ، إلا بعدما يستوثق من الجوهر .. وأمر موافقة الأسرة يسير ، إذ وضعت في حسباني أن الطيف الذي يسكنني هو من النوع المقاتل ( طيف عفاريتي ) ، ذلك الطيف الذي يقاتل من أجل قضيته ، وهو ولاشك سيكسب معركته مع الأسرة وسيصمم على موقفه طالما تلاقت الأرواح ..
أحلام شباب ؟؟..
نعم هي أحلام شباب .. غض النبتة .. طري العريكة ، لين الجانب .. أخضر القلب والعود معا ، لا يعرف من مصاعب الحياة شيئا كثيرا ، يسمع عنها لكنها لم تسوّد القلب بعد ، ولم تحرق جوفه معوقات الواقع ..
طموحات وأحلام وردية شفافة رقراقة ..
سمها ما شئت ، فأنا معك في أنها أبعد ما تكون عن الواقع والحقيقة .. لكن الذي قد لا تدريه أن أحلام الأمس حقائق اليوم ، وأن أحلام اليوم حقائق الغد ..
وقد تحققت أبعد الأحلام ، وأشد الطموحات خيالا وتحليقا بعيدا عن الواقع .. ذلك لأن الطيف الذي سكنني لم يكن طيفا عاديا ، وروحها التي تحلق بها فتطير بلا جناحين ، لم تكن روحا عادية .. فتحققت الأحلام الغضة البريئة التي لم تكن تحتمل حتى معاناة الانكسار على سدود الواقع وأسواره ..
غني عن القول يا صاحبي أنني تقدمت لخطبتها بواسطة أحد أصدقائنا وذلك من أخيها عصام ، ولا يخفى على فطنتك أيضا أنني رُفضت رفضا قاطعا لا رجعة فيه ، لم أكن ممن يكذبون فيعدون بما لا يستطيعون ، ولم يكن في مقدوري إن أردت أن أكذب ، لقد كنت وأصدقائي منفتحين على بعضنا البعض ، فكل منا يدرك ظروف الآخر تماما .. وكان مما يدركون عنا ، أننا أسرة محترمة جدا وفي وضع مادي جيد ، لكن بالتأكيد لا تملك من أعباء وتكاليف تزويج أبنائها شيئا ..
فرُفضت ، وقيل للوسيط أن الرفض قاطعا مانعا لا تجدي معه إعادة المحاولة .. وبلغت بفشل مهمة مبعوث السلام ، ورثيت لحاله أكثر مما رثيت لحالي ، إذ ذكرني بمبعوث السلام الأمريكي إلى الشرق الأوسط .. ولكن خيبة أملي وجرحي كان كبيرا .. أين الطيف الذي ظننت أنه سيقاتل معي ؟
هل هو مشغول بغيري ؟ أم أنه لم يصله أمري ؟
أم أنهم رفضوا حتى دون أن يشاورونه ..
كلها احتمالات ..
وحدثني الوسيط عن محاولة أخرى وشيكة في مناسبة اجتماعية قادمة ، وأنه سيستغلها لإعادة فتح الموضوع ، وأثنيته عن عزمه شاكرا ، وقد كدت أصرف نظر ، فالطيف الذي يسكنني لم أره ولم يرني ، ولا سبيل بعد ذلك ولا قبله ، لأن أعيد جرح كرامتي أكثر من ذلك ، وطالما أن المبدأ ذاته مرفوض ، فلأوفر لماء وجهي بقية أواجه بها الحياة ..
لكن الطيف بالاشتراك مع مبعوث السلام ، كان له رأيا آخر ..
الحلقة القادمة منال تروي